تخطّط إسرائيل لاحتلال مناطق إستراتيجية في غزة و"تطهيرها" بشكل منهجي وثابت (أ ف ب)
يحيى دبوق
الإثنين 5 أيار 2025
تحت اسم «غزة الصغيرة»، أعلنت إسرائيل عن خطّة تصعيد عسكري شاملة في قطاع غزة، يتخلّلها توسيع العمليات البرّية والجوية في شمال القطاع ووسطه، وترحيل السكان إلى مناطق محدودة في الجنوب، وحشْرهم فيها، من أجل الضغط على حركة «حماس» لدفعها إلى الاستسلام الكامل، بما يشمل تفكيك بنيتها العسكرية وإنهاء سيطرتها على القطاع بشكل كامل ودائم. وجاءت هذه المقاربة بعد فشل محاولات دفع «حماس» إلى الاستسلام بطرق دبلوماسية وتفاوضية، نشطت أخيراً مع المفاوضين، وقوبلت بإصرار الحركة على صفقة تبادل أسرى تؤدّي إلى إنهاء الحرب، ترفضها إسرائيل.
والخطّة، التي جرى تسريب تفاصيلها عبر وسائل الإعلام العبرية قبل إقرارها رسميّاً، تشمل تعبئة عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، وتحشيد ألوية عسكرية من الجبهات الأخرى في الضفة ولبنان وسوريا، لتركيزها في قطاع غزة. أيضاً، تُخطّط إسرائيل، وفقاً لإعلانها المُسبق عن العملية وسياقها الإجرائي ونتائجها، لاحتلال مناطق إستراتيجية في غزة و»تطهيرها» بشكل منهجي وثابت ودائم، وذلك من أجل البقاء فيها «حتى تحقيق الأهداف كاملة»، وفق تصريحات الجيش، الذي يربط بين الضغط العسكري والإفراج عن الرهائن وتفكيك «حماس» وإزالة سلطتها نهائيّاً.
وتثير المقاربة الإسرائيلية علامات استفهام، من جملتها: هل هي مجرّد تهويل إعلامي هدفه الضغط على «حماس» لثنيها عن مواقفها الثابتة، وهو ما حدث في مراحل سابقة من الحرب؟ أم أن هناك نية حقيقية هذه المرّة لشنّ عملية برّية واسعة، تُكرّر تجربة الأشهر الطويلة من الحرب نفسها، لكن مع «مزيد من القوّة والشراسة»، كما يُلمّح إليه بعض القادة الإسرائيليين؟ أم أن الواقع يكمن في مزيج من الاتجاهَين: يُستخدم الإعلان عن الخطّة كورقة ضغط تفاوضية، مع الحفاظ على خيار التنفيذ الجزئي، ولاحقاً الكلّي، في حال فشلت المفاوضات؟
لعلّ الإجابة تتطلّب قراءة متأنّية للحسابات العسكرية والسياسية، في ظلّ شكوك داخلية إسرائيلية واضحة إزاء جدوى التصعيد الشامل؛ وإنْ كان الرأي السائد يعتبر أن التحرّك الميداني، في هذا الاتجاه أو ذاك، أفضل بكثير من المراوحة، مع تصعيد محدود وعمليات تقتيل منهجية، ثبت، إلى الآن، أنها غير مجدية لجهة ثني الفلسطينيين عن موقفهم.
الهدف الرئيسي من الخطة الإسرائيلية هو التهديد في سياق الاستعداد العملي
وبدأت إشارات «التصعيد الميداني الشامل» بالورود بعد فشل الجولة الأخيرة من مفاوضات القاهرة، التي انتهت إلى طريق مسدود نتيجة التعنّت الإسرائيلي، وتمسُّك حركة «حماس» بمواقفها الثابتة، علماً أن إسرائيل، أغرقت، في حينه، وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية بتقارير تشير إلى قرب التوصّل إلى اتفاق يُنهي القتال بـ»هدنة مؤقّتة». ومع إعلان فشل المفاوضات، بدأ مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الترويج للعملية البرّية الكبرى، ونيّته إعادة إصدار الأوامر للتصعيد، ومن ثم الانتظار لتسلّم خطط الجيش للمصادقة عليها، تمهيداً لعقد المجلس الوزاري المصغّر (الكابينت) لاعتمادها، وبدء التنفيذ الفوري.
أمّا التسريبات التي كشفتها مصادر عسكرية حول تفاصيل الخطّة ومكوّناتها والنتائج المتوقّعة منها، فجاءت متطابقة في معظمها مع الروايات العبرية، ما يشير إلى أن الهدف الرئيسي منها هو التهديد في سياق الاستعداد العملي، في ما يتوافق مع تسريبات تحدّثت عن أن إسرائيل تَستخدم التهويل كأداة ضغط قبل التنفيذ، أي التحرّك الميداني. وكانت إذاعة «كان» العبرية، أوردت تفاصيل الخطّة العسكرية والحسابات السياسية واللوجستية، فيما بدت لغة التقرير واضحة لجهة تأكيد التفاعل بين التهويل الإعلامي والنيّة العملية.
ووفقاً للتقرير، فإن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زمير، قدّم لنتنياهو، ووزير الأمن يسرائيل كاتس، خطّة لتوسيع الضغط العسكري على «حماس»، بما يشمل تعبئة عشرات آلاف جنود الاحتياط، وتوسيع العمليات البرية في قطاع غزة، في موازاة التشديد على أن هدف الجيش من رفع مستوى الضغط على الحركة، هو الإفراج عن الرهائن وتدمير الهيكل العسكري لـ»حماس»، مع التشديد على أن الهدفَين «مترابطان».
وضمن الخطّة التي جرى تعريفها في التقرير، بـ»غزة الصغيرة»، يجري العمل على تهجير السكان الفلسطينيين، في إطار خطّة إخلاء شاملة من شمال القطاع ووسطه، وفق نموذج تهجير السكان الأخير من رفح، وإنشاء محاور أمنية ومحاصرة الفلسطينيين الذين تمّ تهجيرهم في جنوب غزة، وذلك ضمن استراتيجية تقسيم القطاع لزيادة الضغط عليه، ودفع سكانه نحو الاستسلام الكامل.
ويبدو جليّاً أن إسرائيل تعمل على مقاربة سبق اعتمادها خلال الأشهر الطويلة من الحرب في غزة، والتي تجمع بين التهويل الإعلامي والتصعيد العسكري، وتنفيذه تدريجيّاً على الأرض، مع العمل على «تقطير» الضغط الميداني لتحقيق أهدافه السياسية والعسكرية. وهكذا استراتيجية، تُستخدم كأداة لرفع سقف المفاوضات أو فرض إرادة تل أبيب، تعتمد على دمج الضغط العسكري المنهجي مع التضخيم الإعلامي، لخلق تأثير نفسي على الخصم.
لكن ما الذي تغيّر هذه المرّة لتكرار نفس المقاربة؟ هل هناك متغيّرات حقيقية تُشعر إسرائيل بفرصٍ جديدة؟ أم أن الأمر لا يتجاوز مراهنةً على تكرار التجربة، مع توقّع أن يؤدّي الإرهاق والضغط المستمرَّان إلى استسلام الفلسطينيين؟ أو ربما يرى صنّاع القرار في تل أبيب أن التصعيد الجزئي أفضل من المراوحة، التي تمنح الطرف الآخر فرصة لإعادة تنظيم صفوفه؟ المؤكّد، أن إسرائيل تراهن على مزيج من التهويل والقوّة والاستنزاف، في محاولة لتحويل الميدان إلى ورقة ضغط تفاوضية، حتى لو لم تكن النتائج حاسمة.